ثقافــة المهمشـين
إذا كان العوام أقل حظا فى العلم من الطبقات الأخرى
فقد حفظ لنا التاريخ نماذج عن علماء وأدباء وفنانين
كانوا فى الأصل مزارعين أو رعاة أو حرفيين.
ولا أدل على ذلك من أن مشاهير المعتزلة كانوا من أهل الحرف والصناعات أو المشتغلين بالتجارة.
إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة تدني ثقافة العوام فى مجملها، إذا ما قيست بثقافة الطبقة الوسطى التى تبنت العلوم والفنون والآداب، وأبدعت الحضارة والثقافة الإسلامية.
فثقافة العوام من ثم عمتها الخرافات والشعوذات، خصوصا فى العصور المتأخرة التى شهدت انتشار التصوف الطرقي.
ومع ذلك فإن هذا النوع من التصوف المتخلف لم يكن كله أوهاما وتهويمات وشعوذات وهرطقات.
فقد شذت عن تلك القاعدة بعض الطرق الصوفية التى كانت تحض على طلب المعرفة والتعلم.
يقول أحد المتصوفة:
"إن الله لا يعبد إلا بالعلم".
ويقول آخر: "آخر الأشياء صوفي جاهل".
على أن المعتقدات الصوفية من كرامات وتقديس للأولياء كانت تنطوى على مضامين اجتماعية وثقافية كانت فى التحليل الأخير تعبيرا عن طبيعة مجتمع متأزم، استعصت حلول مشكلاته، اللهم إلا الاستعانة عليها بالصبر من ناحية، أو طلب الخلاص فى نعيم الآخرة من ناحية أخرى.
وإذا كانت ثقافة العوام "شفاهية" أو غير مكتوبة، فقد حفلت الحوليات التاريخية بالكثير من المعلومات عن "الذهنيات" الخاصة بالمأكل واللباس والمسكن وطرائق التفكير والعادات والتقاليد والفضائل والرذائل.. إلخ..
كما كشف "الطب الشعبي" عن ابداعات للعوام تجاوز الكثير منها طور الخرافة ومال الى التجريب واكتساب الخبرات فى علاج الأمراض والتداوي، مازال الكثير منها صالحا للتداول حتى عصرنا هذا.
أبدع العوام ايضا أدبا جهاديا نضاليا يعانق قيم الدين وفضائل الفروسية، لكن من أسف أن معظمه عصفت به أيدي التخريب والحرق. كما خلفوا أدبا شعبيا عرف باسم "أدب الزهد والرقائق".
الذى يعبر عن موقف العامة إزاء الحكام الجائرين والموسرين،
وكانت مجالس الوعظ منتشرة فى الحواضر الإسلامية، يرتادها العوام فى المساجد والزوايا والساحات الخالية، ويؤمها الرجال والنساء على السواء طلبا للثقافة الدينية. لكنها تحولت تحت تأثير تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى بؤر "ثورية" حيث عرض فيها العوام شكاواهم ضد الحكام وعمالهم وسياساتهم المشتطة، ووجدوا استجابة لها من "الوعاظ" الذين دعوا العوام إلى "تغيير المنكر" بالقوة. لذلك كانت السلطات الحاكمة تفرض على هذه المجالس رقابة صادمة، وصلت فى الكثير من الأحيان إلى القيام بإغلاقها.
كما وجد من العوام من أسهم بنصيب وافر فى مجال الأدب، نثرا وشعرا. فأدب "المقامات" على سبيل المثال عبر عن معاناة المكدودين والمتسولين وبؤس الشرائح الاجتماعية المهمشة.
لذلك انطوت على قدر من "النقد الاجتماعى" وصل أحيانا الى حد التحريض على الثورة للتخلص من تلك الأوضاع المزرية.
ومن أشهرها مقامات "بديع الزمان الهمدانى" الذى كان من المكدودين، والذي راجت مقاماته بين جموعهم عن طريق التداول الشفاهي. أما عن "أمثال العوام"، فكانت بمثابة نوع من الأدب الفلسفي الذي امتاز بإيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية.
وهى تعالج موضوعات حياتية وتفصح عن خبرات وتجارب جرى التعبير عنها بطريقة ساخرة من الحكام، تشي بفقدان الثقة فى شخوصهم والاستعانة على جبروتهم بالصبر.
كما انطوت على الكثير من الفضائل، كالتحلي بالقناعة والتراحم والتكافل، بما يساير طبيعة مجتمعات غصت بالظلم الاجتماعي والاغتراب السياسي.
وأغلب هذه الأمثال المتداولة شفاها كان باللهجات العامية، وكانت تحمل ألفاظا من لغات قديمة، خصوصا فى المناطق التى لم تعرب إلا فى العصور المتأخرة.
كما حوت ألفاظا من العربية الفصحى جرى تحريفها أو تصحيفها، لذلك ساء اللحن بدرجة جعلت بعض اللغويين يصنفون كتبا عن "ألحان العوام".
أبدع العوام أيضا "أدب الفتوة" الذي قرظه الجاحظ لما ينطوي عليه من فضائل ندر وجودها فى الأدب الرسمى.
ويحمل هذا النوع من الأدب الشعبى على الحكام الجائرين والأغنياء والموسرين. هذا فضلا عن طرق موضوعات مستحدثة، تتعلق بالوجدان الجمعي والعلاقات الاجتماعية والمثل الروحية والمشكلات النفسية، بحيث اعتبره بعض الدارسين "منظما لحياة الجماعة ودرعا حاميا لها من التخلخل". كانت "الحكايات الشعبية" قصصا ملحميا نسجه الوجدان الشعبي، وجرى تداولها جيلا بعد جيل عن طريق الرواية الشفاهية.
منها حكايات "ألف ليلة وليلة" التي تحوى قصصا انسانيا ذا مرام اجتماعية ومقاصد سياسية. أما "السير الشعبية" فهى قصص ملحمي يتراوح بين النثر والشعر، ويدور حول البطولات والفروسية، بحيث امتزجت فيها الحقيقة بالخيال.
منها "سيرة عنترة" التى تتحدث عن صعاليك العرب، والتي جرى إحياؤها فى العصور الإسلامية المتأخرة التى تعرضت فيها البلاد لبطش وجور الحكام، إلى جانب الأخطار الخارجية كالصليبيين والمغول التى كانت تهدف الى البحث عن "بطل عربى" يعيد للأمة أمجادها وينقذها من الأحوال التى تردت إليها.
كما عبرت "سيرة بنى هلال" عن التمزق في العالم الإسلامي من جراء الصراعات العنصرية والحروب التى أفضت الى الخراب والدمار. أما عن "سيرة الظاهر بيبرس" فتدور حول بطل وزعيم عربى يعيد توحيد دار الاسلام من خلال صفاته الفذة وبطولاته الخارقة للعادة، وفيها تختلط الأزمنة والأمكنة، لتسرى السيرة عبر الزمان والمكان، تضيف إليها الأجيال من قرائحها ما تفرزه طبيعة مجتمعاتها، معبرة فى النهاية عن "أزمة واقع" وكذا عن الاستئساد فى "الحفاظ على الهوية" خلال عصور كان معظم حكام العالم الإسلامي خلالها من الأجانب.
وعبرت "سيرة الأميرة ذات الهمة" عن بروز دور المرأة المسلمة كبطلة أناط بها العوام مهمة إنقاذ "دار الإسلام" فى عصور عجز خلالها الرجال عن القيام بالمهمة. أما عن "سيرة حمزة العرب" فقد استوعبت بطولات "شطار" العراق ضد النفوذ الفارسي الذي تعاظم خلال العصر العباسى. كما عبرت "سيرة على الزيبق" عن وحدة حركة العيارين والشطار فى العالم الإسلامي، وخصوصا بين العيارين فى العراق والحرافيش بمصر، باعتبار مصر والعراق "فرسي الرهان" لإنقاذ العالم الإسلامي من أوضاعه المتردية، لذلك فقد أجمع الباحثون خصوصا فى مجال علم "الفلكور" على أن السير والملاحم الشعبية تعد تاريخا شفاهيا فى مواجهة التاريخ الرسمى والمكتوب، وأنها لذلك أكثر صدقا وبراءة لأنها فى التحليل الأخير نتاج وجدان الشعوب، وليست نسيج عقول مؤرخى البلاط" .
وفى مجال الشعر، أبدع العوام والمهمشون نوعا من النظم تجاوز الشعر التقليدي فى موضوعاته وطرائقه ولغته ومقاصده. ومن أبرز هذا النوع من الشعر الشعبى فن "المواليا" الذي استحدثه عامة بغداد.
كما أبدع العوام فى الأندلس فن "الأزجال" الذى ندد بالسلاطين، فى مقابل "الموشحات" التى عبرت عن شرائح الطبقة الأرستقراطية.. لذلك كانت الأزجال تلقى بالعامية، بينما كانت الفصحى لغة الموشحات، وتميل الأزجال إلى الزهد والسخرية والفكاهة والظرف وقد انتقل هذا الفن الى مصر، حيث وضع "ابن سناء الملك" قواعده، ثم انتشر كذلك بين عوام العراق، الأمر الذى يؤكد حقيقة وحدة الثقافة العربية الإسلامية.
كذلك كانت الأزجال نوعا من "شعر الكدية"، فضلا عن تبنيها فريضة الجهاد ضد الأجانب كالصليبيين والمغول فى الشرق الإسلامى، ونصارى الأندلس فى بلاد المغرب والأندلس. وقد وصف النقاد هذا النوع من الشعر العامى بأن "إعرابها لحن وفصاحتها لكن، وبقوة لفظه وهن، وحلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها سقام.. فهى السهل الممتنع والأدنى المرتفع". كما ابدعوا "شعر المديح" الذى تغنى به المنشدون فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، تعبيرا عن الرغبة والطموح لإحياء العصر الذهبي فى تاريخ الإسلام. كما شاع "شعر الندب" الذى نظمته النساء فى صورة "مقاطع حزينة"، تعبيرا عن معاناة نوائب الدهر، لذلك كان هذا النوع من الشعر "تعبيرا عن الآلام، كما كان أكثر أنواع الشعر صنعة، وأعمقها معنى، على حد قول تلميذنا النابه "د. عمر الشبراوي".
هكذا عبرت قرائح العوام نثرا وشعرا عن هموم الطبقات الكادحة وطموحاتها فى الخلاص. على أن هذا النتاج الأدبى قد ذهب الى ما هو أبعد من ذلك، اذ يشى بأن الخلاص الفردي، أو الخلاص الجمعى لطبقة المهمشين والمكدودين لن يتم بمعزل عن الخلاص من الحكام الجائرين فى الداخل والأخطار المحدقة بالعالم الإسلامى من الخارج. كما يكشف هذا النتاج الأدبي والثقافي عن حقيقة عجز القوى الاجتماعية المهمشة فى إحداث الانقلاب الثوري للقضاء على الخطرين معا. خصوصا بعدما آلت إليه الانتفاضات والثورات الاجتماعية من فشل وإخفاق، برغم كثرتها وتعددها. لذلك اتسم أدب العوام عموما بالخنوع وقبول الأمر الواقع والتسلح بالصبر، ومهادنة السلطة. كما كشف عن حقيقة تردى الأحوال الاقتصادية، وطبيعة علاقات الانتاج الإقطاعية والعبودية. وفى المجال الاجتماعي، أضاء الأدب الشعبي ما أهملته المصادر التاريخية والأدب الرسمي حول إشكالية "البناء الطبقي" وأثبت دون شك وجود طبقة واسعة وعريضة من العوام المستضعفين والأرقاء، فى مواجهة "طبقة أرستقراطية" عاتية ومتجزرة، وأخرى "وسطى" هزيلة ارتبطت بالطبقة العليا وتخلت عن دورها التاريخى فى قيادة الطبقة الدنيا، كشف هذا الأدب الشعبى أخيرا عن تكريس "الوضع القائم" بما يؤكد حقيقة "الحركية والصيرورة المتباطئة للتاريخ الإسلامي".
وفى مجال الفنون، ابدع العوام أعمالاً فنية صادرة عن "الوجدان الجمعى" فى صورة "تمثيل" مرتجل قام به المحاكون الهزليون الذين عرفوا باسم "أصحاب السماجة" وهم يعتمدون فى "تمثيلياتهم" على الحركات الغريبة، وقص "الحكاوي" الهزلية بصورة تعبر عن الصفات والأخلاقيات البشرية المتنوعة، مستعينين فى ذلك ببعض الأدوات البدائية التى تساعد على تجسيد العمل الفني كما كان هؤلاء "المحاكون" يقدمون نوعا من المسرح البدائي يصور بعض الوقائع العسكرية أو الكوارث الطبيعية والبشرية.
كما جرى استخدام "الدمى المتحركة" التى تحكى عن نماذج اجتماعية واقعية، عرفت لذلك باسم "خيال الظل" التي يعتبرها بعض النقاد إرهاصا لفن المسرح الاسلامي. كما كان للشيعة دور مهم في هذا الصدد تمثل فى "احتفاليات العزاء":
التي كانت تمثل فى "يوم عاشوراء"، واقعة مقتل "الحسين"، والتي كان يصاحبها صور من التفجع والنياحة والندب وضرب الصدور، تعبيرا عن الندم، وطلبا للأخذ بثأر الحسين. تلك صورة مجملة عن "ذهنيات العوام" المعبرة عن ثقافتهم التى لا تخلو من إبداع، بما ينفى الاتهام الشائع بجدب ثقافة العوام والمهمشين.