نسمع كثيراً جملة ( ومن الحبِّ ما قتل ) ، ولكن ما سَمِعْنا تركيـب : ( ومن الحياء ما قتل ) ، وقد يستغرب القارئون أن يقتل الحياءُ شخصاً بعد أن ضربت الرَّذيلة بأطنابها فلا تسمع إلا فُحْشاً ، ولا ترى إلا عُرياً .
وعُري اليوم غيرُ عُري الأمس ، فهو مباحٌ باسم الموضة ، مبرَّرٌ بمصطلح التَّحرُّر والمساواة ، مصانةٌ بغاياه في بعض الدُّول - ومنها إسلاميَّةٌ -بتشريعاتٍ وقوانينَ ، تموِّلهُ جهاتٌ مشبوهةٌ ، وتقوده منظَّماتٌ فاعلةٌ .
لكنَّ هذا التَّمويلَ السَّخيَّ ، والتَّخطيط الذَّكي ، لا يجني ثمارَه في كلِّ بقعة ، ولا يحقِّق أوطاره من كلِّ امرأة ، إذ إنَّ الفطرة النَّقيَّةُ من دنسِ الإعلام المشبوه ، والبيئة الصَّالحة للتربية والتَّوعية ، و لزوم أحكام الدِّيانة السَّمحة تبقى حصوناً آمنةً ودروعاً واقيةً من كلِّ المكائد والمصائد
جاء في صحيفة اليوم السَّابع أنَّ فتاةً بمدينة الأُقصر المصريَّة نطق فعلها بعبارة ( الحياء يقتل) تقول : 'تسبَّب حياءُ فتاة، من نجع المطاعية التابعة لمركز البياضية بمحافظة الأقصر، في مصرعها حرقاً عندما رفضت الخروج عارية من دورة المياه أثناء استحمامها بعد اندلاع حريقٍ بالمنزل المبنيِّ بالطُّوب اللبن.. تحرَّر المحضر 1452 إداري البياضية وأُخطرت النِّيابة الَّتي أمرت بدفن الجثَّة وتولَّت التَّحقيقات ' .
٭٭٭٭٭
عرَّف العلماءُ الحياءَ بأنَّه : ' انحصارٌ يلحق النَّاسَ خوفاً من قبيحٍ ' ، والانحصار لغةً : الإحجام عن الشَّيء ، فالفتاة أحجمت عن النَّجاة ، واختارت الموت خوفَ أن يلتصق بها فعلُ القبيح ، وهو رؤيتها عاريةً أمام النَّاس .
والصَّحيح الَّذي لا خلاف عليه بين العقلاء يقول : إنَّ فتاة الأقصر لو خرجت عاريةً أمام الخلْق فإنَّه لا يلحقها القبيحُ عقلاً ، ولا يقبِّحها ديانةً ؛ لأنَّ إسنادَ فعلِ العُري إليها إسنادٌ اضطراريٌ ، وليس إسناداً اختيارياً ساء ارتكابُه وشان فعلُه ، و قد نصَّت الشَّريعة في قواعدها المحكمة على أنَّه ( لا ضرار ولا ضرار ) ، و( المشقَّة تجلب التَّيسير )، و ( إذا ضاق الأمر اتَّسع ) ، وأنَّ حفظ النَّفس من مقاصدها ومكارمها ، لكنَّ الَّذي يعنينا هنا هو البحث عن ذلك الشَّيء القوي الَّذي غلب على تلك الفتاة فجعلها تنسى شبابها ، وتتنازل عن عمرها ، وتخلع مستقبلها ، وتختار ألم الحرق ، وتركب هول الموت ، هل هو ما غُـرس في طبيعتها الفطريَّة من الحياء الشَّديد والَّذي قوي جدّاً بتقاليد قريتها ؟ ، أو هو اجتهادُها بأنَّ هذا هو الصَّحيح والواجب شرعاً ؟ ولا نستبعد أيضاً فرضية أنَّها خافت من أن تُطارد وأهلها بألسنة الجاهلين ممَّن لا ينزلون الأمور منازلها فيلحقها وأهلَها عارٌ أبد الدَّهر ، عارٌ يتردَّد في بيئة مغلقة لا تنسى الأحداث ، وتتندَّر بالفضائح ، وتسليتها تجاذب أطراف الكلام في العيب والعار.
وإذا كنَّا في موضوع الحياء وما أدَّى إليه في هذه الواقعة أرى لزاماً التَّنبيه على ما أدَّى إليه غيابُ الحياء من عادات سيئة ومظاهر معيبة في مجتمعنا الليبي وهي كثيرةٌ منها :
1. ترى الرَّجل يحمل زوجتَه باسم الرَّفهيَّة ، و الأهل يحملون عروسهم باسم مكمِّلات مراسم الفرح إلى ما يعرف بالحمَّام البخاري ، فلا عروس كاملة إلَّا بالغُسل فيه ، وكثيرون يجهلون أحوال هذه الحمَّامات ، وبخاصة بعد انتشارها في كلِّ ناحية ، فيعرضون أعراضهم لمؤامرات التَّصوير وفنونه، وخائنة الأعين المستترة ، وخدش الحياء اللفظي ممن يقفون بالقرب من أبواب هذه الحمَّمات ، ولا يعني ما ذكرته أن الاغتسال بالحمام البخاري حرامٌ على الإطلاق بل هو جائزٌ بشروط ، فقد نصَّ العُلماء على أنَّ للحمامات البخارية أحكاماً لازمة وآداباً معتبرةً ، فلا ير عورةَ المغتسِل غيرُه ، ولا يمسسْها سواه ، وكثيرون لا يعلمون من العورة إلَّا السَّوأتين ، وهذا جهلٌ لا يُعذر الواقع فيه بدعوى الجهل ، وهذه الشُّروط تأتي كلُّها بعد الاطمئنان على أمن المكان من منتهكي الحرمات ، وسلامته من دنس الاختلاط .
2. تجد الأمَّ وابنتَها وابنها بل ومعهم الأب أحياناً يشاهدون المسلسلات المدبلجة أو المترجمة والأفلام العربيَّة المنحلَّة فيعتادون على سماع ما يخدش الحياء ويألفون رؤية العُري الَّذي يذهب بالحشمة .
3. تجدُّ محلَّات تتاجر بملابس النِّساء لا سيما ملابس ستر العورة ، و قد تجد فيها من الباعة رجالاً ولو واحداً عند استلام النقود ، فيتجاذب مع المشترية أطراف الحديث في أمور يتوجَّب فيها الحياءُ ، ولكنَّهم يستسهلونه ؛ لأنَّه بيعٌ وشراء ، وكم من مصيبةٍ تولَّدت من هذه المحادثات ، وكانت منها هذه المحرَّمات .
4. ومن بلاء ذهاب الحياء في أيَّامنا أنَّ الرَّجل يحمل زوجته إلى الأعراس ومعه زوجة أخيه وأخته ، والزِّينة ظاهرةٌ ، والرَّوائح غابقةٌ ، فتعتاد زوجة الأخ مع مرور الزَّمن الزِّينة الفاحشة أمامه ولا ترى فيها هتكاً لستر الحياء ، وكذلك تعتاد الأخت العري أمام أخيها ، ويشهدُ اللهُ - تعالى - أنَّي استفتيت مراراً في زنا المحارم والأقارب ممَّن وقع فيهم هذا البلاء فلا تظنُّوه خيالاً وتهويلاًُ .
5. ومن مذهبات الحياء الأسواقُ العامرة الَّتي يختلط فيها الرِّجال والنِّساء فقد صارت توزَّع فيها الألفاظ المشينة ممَّن لا خلاق لهم ، وترتادها عارياتٌ مميلاتٌ ، وما يحدثُ فيها معلومٌ لا يحتاج إلى بيان .
6 . ومن آفات زمننا أنَّ بعض الطَّيبين يبيتون ليلة زفافهم في الفنادق المشهورة هديَّةً من صديقٍ ، أو منحة من قريبٍ ، فتراه يُدخِلُ زوجتَه أمام جمهرة النَّازلين بزينتها وروائحها فيخطفون عرضه بأنظارٍ لا تنتهي ، ومن المعرِّسين من يلتقط الصُّور عند مدخل الفندق ، والناسُ بجانبه لا تتوقَّف عن المرور ، وهذا كلُّه من موت الغَيرة ، والبعد عن تطبيق الشَّريعة ، والفهم المخطئ في فهم التَّمدُّن ، فالشَّريعة ليست صلاة وصياماً فقط ، بل هي أحكامٌ مصاحبةٌ لسلوك المسلم حيثما حلَّ ، وأينما وجد .
7. ولا يغيب عنَّا في هذا المقام التَّنبيه على تلك العادة السَّيئة القبيحة ، ولو كانت تحت مسمَّى التُّراث الشَّعبيِّ فليس كلُّ التُّراث محموداً ، وأعني به ما يعرفُ عندنا بالكشك الَّذي يتحلَّق فيه الرِّجال حول امرأةٍ أو أكثر يتناشدون فيها أشعار الغزل ، ويصحبه تصفيقٌ من الرِّجال ورقصٌ من النِّساء ، فهذا الكشكُ اللعين لا يرتضيه الدِّينُ ، ويمجُّه الذَّوقُ السَّليم ، لا يفعله مسلمٌ صادقٌ ، فالحياء من الإيمان ، وهو قاتلٌ له بما يصحبه من تلك الأفعال ، وما أبشعه عندما يضمٌّ في دائرته جمهرة المسنِّين الَّذين ينبغي أن يعوَّل عليهم في صلاح الأحوال وبناء الأجيال ، و ما أقبحه عندما تُبنى حلقتُه بالآباء مع أبنائهم فتجتمع أكفُّهم على فعل المنكر والبهتان .
وأخيراً : الحياءُ يبقى وقايةً للمجتمع ما حرصنا عليه وعرفنا خيره ، ويذهب ويكون غيابُه خطراً بإهمال عوارض غيابه ، والدَّولةُ عليها عبْءٌ كبيرٌ في الحفاظ على الحياء بين النَّاس بمحاربة أشكال الفجور والقضاء على مقدِّماته ، و لا نغفل ُوجوبب محاربة الفقر والظلم فإنَّ هذين الأخيرين قد يقتلان الحياءَ ، وقديماً قال الشَّاعر العربيُّ :
وجرَّبنا وجرَّب أوَّلونا فلا شيء أعزُّ مـن الوفاءِ
ولم ندعِ الحياءَ لمسِّ ضرٍّ وبعضُ الضرِّ يذهب بالحياءِ
أرجو أن ينال إعجابكم